الأرومة العربية (20)
الأردن
من الصعب الحديث عن أي بلد من بلاد الشام ( سوريا والأردن وفلسطين ولبنان)،بمعزل عن البلدان الأخرى، وذلك لتداخل هجرات القبائل منذ القدم، وأشكال السيادة على تلك المنطقة، وصلات الأهالي بالقرابة والمصاهرة وغيره...
وتبلغ مساحة بلاد الشام 318200كم2، تشكل الجمهورية العربية السورية والبالغة مساحتها 185180كم2 ما نسبته 58.2% والمملكة الأردنية الهاشمية 89206كم2 ما نسبته 24.8% وفلسطين المحتلة 32659 ما نسبته 12.19% والبحر الميت 755كم2، أما الجمهورية اللبنانية فمساحتها 10400كم2 ونسبتها من بلاد الشام 3.3%...
حتى أن الرومان عندما احتلوا المنطقة وأسسوا حلف المدن العشرة (Decapolis ) لم يعيروا اهتماما للفواصل القائمة الآن فسبع من تلك المدن كانت في الأردن (عمان، جرش، إربد، الحصن، بيت راس، طبقة فحل، أم قيس) واثنتان في سوريا (درعا وبصرى) وبيسان في فلسطين...
ومن الحقائق الجغرافية اللافتة في الأردن، هي الطول المفرط لحدوده البرية، فلو وضعنا نسبة المساحة مقسوماً على طول الحدود، لوجدنا الأردن يحتل المرتبة الأولى في تلك النسبة بين الدول العربية، فكل ألف كيلومتر مربع من مساحة الأردن، يقابله نحو خمسين كيلومتر في الحدود... في حين تكون كيلومترين ونصف للمساحة نفسها في كل من مصر وليبيا والسودان والجزائر، ونحو عشرة كيلومترات لكل من سوريا وتونس...
إن هذا الأمر يخلق أعباءً مالية ولوجستية، ككلف إنشاء الطرق، وكلف الحماية الأمنية، والإنارة والاتصالات وغيرها ...
كان الشرق الأدنى في عهد نبوخذ نصر يبدو للعين البعيدة الفاحصة كأنه بحر خضم يتلاطم فيه خليط من الآدميين يأتلفون ثم يتفرقون، يَستعبدون (بفتح الياء)، ثم يُستعبدون (بضم الياء)، يأكلون ويؤكلون، يقتلون ويُقتلون الى غير نهاية، وكان من ورائهم إمبراطوريات كبرى (مصر وبابل وآشور والفرس)... من هؤلاء (الكثرة) المؤابيون والعمونيون والكنعانيون والأنباط ويعدد (ول وايريل ديورانت) صاحب الموسوعة الضخمة (قصة الحضارة) عشرات الدول والمملكات التي اندثرت....*1
على أننا ونحن نتحدث عن الأردن نود أن ننبه القارئ على عدم انخداعه بأباطيل المؤرخين سواء كانوا يزيفون عن قصد، أو أنهم يستعجلون لإكمال كتابة مواضيعهم بالأطروحات أو حتى بوضع المناهج الدراسية للطلاب، معتمدين اعتمادا كليا على ترجمات أجنبية، ولا يحاكمون تلك الترجمات على طريقة ابن خلدون الذي استحدث علم فلسفة التاريخ...
ومن الأمثلة على رداءة المحتوى وكثرة التزييف بتاريخ الأمة بعض الترجمات مثل (آثار الأردن)*2 و (العرب قبل الإسلام ــ جرجي زيدان)*3 و(تاريخ الشعوب الإسلامية)*4 و(أرض جلعاد)*5
ومما يبعث على التفاؤل أن هناك العديد من المؤرخين الذين يسيرون على نهج ابن خلدون في عدم تمرير أي معلومة لا يقبلها العقل والمنطق، ونذكر منهم (جواد علي) و (محمد عزة دروزة) و(أحمد عويدي العبادي) الذي ترجم أرض جلعاد ولكنه لم يتركها بحالها بل فند مزاعم مؤلفها...
كما نذكر ساطع الحصري (أبو خلدون) عندما انتقد جرجي زيدان في الصفحة 91 من كتابه (آراء وأحاديث في التاريخ والاجتماع)*6 ... كما انتقد جرجي زيدان الدكتور عبد الرحمن عشماوي *7... وكذلك انتقده شوقي أبو خليل*8... كما انتقد نفس الكاتب (كارل بروكلمان) صاحب كتاب تاريخ الشعوب الإسللامية *9
ولما كانت الروايات المستخلصة من التوراة هي من أهم المراجع التي اعتمدها الإخباريون العرب (كالطبري وابن الأثير وغيرهم) ويعتمدها معظم مؤرخو الغرب، انبرى يهودي روسي يسخر من زج الرؤيا اليهودية في تفسير التاريخ*10
إن التسليم بأن نشأة الحضارة، قد تمت بعيداً عن منطقتنا العربية، يعمق الشعور بانعدام وزننا كعرب، لا سيما ونحن نعيش في عصر تردي أحوال الأمة العربية...
لم يكن الإغريق والرومان قد عرفوا شيئاً من فنون البناء والعمارة وتخطيط المدن، قبل المصريين والعراقيين، بل تأخروا عن تلك الحضارتين أكثر من ألفي عام...
وإن كان اليونانيون والرومان يزعمون بأنهم هم من أوجد الأبنية والمعالم الأثرية في الأردن، نقول لهم إن مدن الأردن وفلسطين قد سبقت مدن مصر والعراق، بأكثر من ألفي عام، فإن كانوا لا يتجرءون على نشر المزاعم عن العراقيين والمصريين، فليكفوا عن مباهاتهم الفارغة في تأسيس آثارنا في الأردن...
فقد أورد (فيليب حتي) والدكتور أبو طالب أبحاثاً لعلماء آثار أجانب استخدموا الكربون المشع 14، وحللوا الحضارة النطوفية*11، فوجدوا أن أبنية أريحا وأسوارها التي يقارب ارتفاعها الستة أمتار تعود لفترة زمنية بين 7770و 9687 سنة، أعمدة أبنيتها متقنة وسقوفها مقببة وأرضيات مبانيها مرصوفة بالحجر الممهد*12
وإذا كان العالم يقر أن أريحا أقدم مدن العالم، فإن علماء الآثار يشهدون أن هناك منطقة شمال البتراء اسمها (البيضاء) تشابهت فنون البناء ومهاراته في أريحا معها في البيضاء وقدر عمر تلك المنطقة بين 4000 الى 8000 سنة*13
وإذا أردنا الابتعاد عن التفصيلات التي تبعث على الملل، وندخل على الدول والممالك التي كانت قبل ميلاد المسيح عليه السلام فسنختار عينة منها:
أولاً: مملكة مؤآب:
لعل أول إشارة تدلل على الممالك في الأردن، جاءت من نقوش الملك الأكادي (نيرام سن) سنة (2270ــ 2232 ق.م) بأنه أخضع غرب العراق ممالك عربية (Aribo)*14
ومؤآب يحدها من الغرب البحر الميت، ومن الشمال المملكة العمونية ومن الجنوب المملكة الأدومية، وعاصمتها كانت أحيانا (الكرك) وأحياناً (ذيبان) ومن أهم مدنها الباقية: الكرك ومادبا وأم العمد وماعين ....
كانوا على خصومة شديدة مع الممالك اليهودية، والذي يذكره (سفر القضاة) بأنهم كان لهم جيش كبير ينتزعون من اليهود كل ما يملكون..
كما كانوا على خصومة مع الآشوريين، إذ كانوا يتحالفون مع أكثر من 12 مملكة يقودها ملك دمشق (بنهدد)، لكن الآشوريون في النهاية كانوا يتغلبون على تلك الأحلاف، أكثر من مرة، وأن الآشوريين كانوا يُقابلوا بكراهية ممالك سوريا والأردن...
أنهى وجود تلك المملكة، نبوخذ نصر سنة 591ق.م لتحتل مكانها دولة الأنباط...
ثانياً: العمونيون
ظهر العمونيون في الأردن في منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ورغم أنهم كانوا بدوا إلا أنهم سرعان ما أسسوا دولة قوية، امتدت حدودها من الموجب جنوباً الى سيل الزرقاء شمالاً، ومن الصحراء شرقاً حتى نهر الأردن غرباً، وكانت عاصمتهم (ربة عمون: فيلادلفيا: عمّان)، ومقر قصر الدولة كان في جبل القلعة...
ومن ملوكهم (حنون و شوبي ورحوبي) وكان آخر ملوك العمونيين (طوبيا العموني) وارتبط اسمه بآثار (عراق الأمير) وقصر العبد بوادي السير...
يصف الدكتور محمود أبو طالب بناء ديني عثر عليه في منطقة ماركا شرق عمان، بأنه مربع الشكل طول ضلعه 16م، وسماكة جدرانه متر ونصف، وتحيط به غرف صغيرة...
انتهت الدولة وزالت سنة 323 ق.م على يد جيوش الإسكندر المكدوني
ثالثاً: الإدوميون :
أقوام عربية ذات أصول بدوية، استوطنت جنوب الأردن منذ القرن العشرين قبل الميلاد في منطقة شمالها (حدود البحر الميت) ومملكة مؤاب وجنوبها خليج العقبة ،إلا أنهم أصبحوا أصحاب دولة مزدهرة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، عاصمة دولتهم (بصيرة) ومن مدنهم (عصيون) و(عارد) و(أيلة : العقبة) و(سلع:البتراء)...
رابعاً: الأنباط
قبائل عروبية حطت قرب البتراء وانصهرت مع القبائل الإدومية حتى أضحت السيطرة لها على كل المكان... وقد أضافوا بعض الطرق الماكرة لإخفاء مياه الشرب، حتى يموت من يفكر بغزوهم من العطش... وأجروا بعض الإضافات المهمة على أبنية البتراء التي تتساوى في العمر مع مدينة الحجر الأثرية في السعودية ويعود بنائهما الى نبي الله صالح ...*15
برزت أهمية الأنباط في أربعمائة عام ثلاثمائة منها قبل الميلاد ومائة بعد الميلاد، حتى بسطوا نفوذهم من جنوب خليج العقبة حتى (بصرى الشام في سوريا)، وكانت (درعا) السورية مدينة لتصنيع الخمور... أما غزة فكانت مينائهم المفضل وكانت تحت حكمهم...
خامساً: الصفويون
في الجنوب الشرقي من مدينة دمشق، وعند مدخل الصحراء، في المكان الذي يطلق عليه (الصفا)، نجد نصوصاً محفورة فوق الصخور السوداء*16 ــ هكذا بدأ المستشرق الفرنسي (رينيه ديسو 1868ــ1958م)
كتاب يتحدث به عن (أم الجمال) وإن كان لا يذكر اسمها، لقد كانت مملكة مزدهرة بين عامي 1200ق.م و 320ق.م ... ومن مدنها الأثرية (دير الكهف) و (سما السرحان) و(الأزرق) وغيرها*16
خاتمة:
لينتبه القارئ أن جرش وكفر خل وكثربا وأم قيس وعمان وطبقة فحل وأم الجمال و سلسلة (حيان المشرف وحيان الرويبض والعليمات) وكل المدن الأردنية بنيت وأسست بسواعد أبنائها وليس بأيدي الأجانب.. وهؤلاء الآخرون فقط بدلوا أسمائها من ربة عمون الى فيلادلفيا ومن أم قيس الى جدارا ومن طبقة فحل الى (بيلا)، وقد يكونوا قد أضافوا بعض الإضافات، لكنهم لن يستطيعوا سرقة شرف تأسيسها
هوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*1ــ قصة الحضارة/ ول وايريل ديورانت/ ترجمة محمد بدران لهذا الجزء من 40 جزء/عابدين القاهرة 1971/صفحة 301 وما بعدها .
*2ــ آثار الأردن/لانكستر هاردنج/ تعريب: سلامة موسى/ أخرجته مجلة رسالة المعلم (العددين 1 و 2 من السنة الثامنة 1965
*3ــ العرب قبل الإسلام/ جرجي زيدان/ مصر/ مطبعة الهلال 1922
*4ــ تاريخ الشعوب الإسلامية/ كارل بروكلمان/ ترجمة منير بعلبكي/ دار العلم للملايين 1973
*5ــ أرض جلعاد/ لورانس أوليفانت/ ترجمة د أحمد عويدي العبادي/دار مجدلاوي 2004
*6ــ آراء وأحاديث في التاريخ والاجتماع/ ساطع الحصري/ مركز دراسات الوحدة العربية ــ بيروت/ 1985 (نشر الكتاب أول مرة عام 1951 بطبعتين في نفس العام) ص 91 وما بعدها
*7ــ وقفة مع جرجي زيدان/ د. عبد الرحمن عشماوي/ مكتبة عبيكان/ الرياض 1993
*8ــ جرجي زيدان في الميزان/ شوقي أبو خليل/ دمشق دار الفكر 1981
*9ــ كارل بروكلمان في الميزان/شوقي أبو خليل/ دمشق/ دار الفكر1987
*10ــ تهويد التاريخ/ إيمانويل فليكوفسكي/ ترجمة رضا الطويل/ القاهرة (العروبة للدراسات والأبحاث ـــ تحت التأسيس) 2002
*11ــ الحضارة النطوفية نسبة الى وادي نطوف غرب البحر الميت، أول من استخدم هذا المصطلح الباحثة الإنجليزية كاتلين كينيون/ الموسوعة العربية المجلد20/ صفحة 715
*12ــ خمسة آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدنى/ فيليب حتي/ المجلد الأول صفحة 38
*13ـــ الموسوعة الأردنية/ الجزء الأول: الأرض والإنسان/ د. عبد الله الطرزي وآخرون/دار الكرمل /الطبعة الأولى 1986 ص 171
*14 ــ المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام/ د جواد علي/ جامعة بغداد 1993 المجلد الأول صفحة 573
*15ــ مدائن صالح من مملكة الأنباط الى قبيلة الفقراء/د إبراهيم السايح/دار البستاني القاهرة 2000
*16ــ العرب في سوريا قبل الإسلام/رينيه ديسو/ ترجمة عبد الحميد الدواخلي/ القاهرة 1959، كما يمكن الرجوع الى كتاب مملكة قيدار للكاتبة السعودية هند بنت محمد التركي/ جامعة الأميرة نورة 2011